سورة النور - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


قال ابن عمر {الذين ملكت} يراد به الرجال خاصة، وقال أبو عبد الرحمن السلمي يراد به النساء خاصة وسبيل الرجال يستأذنوا في كل وقت، وحكى الزهراوي عن أبي عمر ونحوه، وقيل الرجال والنساء كلهم مراد ورجحه الطبري، وقرأ الجمهور الناس {الحلُم} بضم اللام وكان أبو عمرو يستحسنها، وهذه الآية محكمة قال ابن عباس تركها الناس وكذلك ترك الناس قوله: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 113] فأبى الناس إلا أن الأكرم هو الأنسب.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذه العبارة بترك إغلاظ وزجر إذ لم تلتزم حق الالتزام، وإلا فما قال الله هو المعتقد في ذلك العلماء المكتوب في تواليفهم، أعني في أن الكرم التقوى وأما أمر الاستئذان فإن تغيير المباني والحجب أغنت عن كثير من الاستئذان، وصيرته على حد آخر، وأين أبواب المنازل اليوم من مواضع النوم وقد ذكر المهدوي عن ابن عباس أنه قال كان العمل بهذه الآية واجباً إذ كانوا لا غلق ولا أبواب ولو عادت الحال لعاد الوجوب.
قال الفقيه الإمام القاضي: فهي الآن واجبة في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها، ومعنى الآية عند جماعة من العلماء أن الله تعالى أدب عباده بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم والأطفال الذين لم يبلغوا إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري في المضاجع، وهي عند الصباح لأن الناس في ذلك الوقت عراة في مضاجعهم وقد ينشكف النائم، فمن مشى ودخل وخرج فحكمه أن يستأذن لئلا يطلع على ما يجب ستره، وكذلك في وقت القائلة وهي الظهيرة لأن النهار يظهر فيها إذا علا واشتد حره، وبعد العشاء لأنه وقت التعري للنوم والتبدل للفراش، وأما غير هذه الأوقات التي هي عروة أي ذات انكشاف، فالعرف من الناس التحرز والتحفظ فلا حرج في دخول هذه الصنيفة بغير إذن إذ هم {طوافون} يمضون ويجيئون لا يجد الناس بدأ من ذلك. وقرأ ابن أبي عبلة {طوافين} وقال الحسن إذا أبات الرجل خادمه معه فلا استئذان عليه ولا في هذه الأوقات الثلاثة، وقوله {بعضكم على بعض} بدل من قوله {طوافون} و{ثلاثَ عورات} نصب على الظرف لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثاً إنما أمروا بالاستئذان ثلاث مواطن، فالظرفية في {ثلاث} بينة، قرأ جمهور السبعة {ثلاثُ عورات} برفع ثلاثُ وهذا على الابتداء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {ثلاثَ عورات} بنصب ثلاث، وهذه على البدل من الظرف في قوله {ثلاث مرات}، وهذا البدل إنما يصح معناه بتقدير أوقات {ثلاث عورات} فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، و{عورات} جمع عورة وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات بفتح العين كجفنة وجفنات ونحو ذلك وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات وجوبة وجوبات ونحوه لأن فتحه داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك.


المعنى أن {الأطفال} أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة وأبيح لهم الأمر في غير ذلك من الأوقات، ثم أمرتعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا {الحلم} على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت وهذا بيان من الله عز وجل، وقوله: {والقواعد}، يريد النساء اللائي قد أسنن وقعدن عن الولد واحدتهن قاعد. وقال ربيعة هي هنا التي تستقذر من كبرها، قال غيره وقد تقعد المرأة عن الولد وفيها مستمتع فلما كان الغالب من النساء أن ذوات هذا السن لا مذهب للرجل فيهن أبيح لهن ما لم يبح لغيرهن.
وأزيل عنهن كلفة التحفظ المتعب إذ علة التحفظ مرتفعة منهن، وقرأ ابن مسعود {أن يضعن من ثيابهن} وهي قراءة أبي وروي عن ابن مسعود أيضاً {من جلابيبهن}، والعرب تقول امرأة واضع للتي كبرت فوضعت خمارها، ثم استثني عليهن في وضع الثياب أن لا يقصدن به التبرج وإبداء الزينة، فرب عجوز يبدوا منها الحرص على أن يظهر لها جمال ونحو هذا مما هو أقبح الأشياء وأبعده عن الحق، والتبرج طلب البدو والظهور إلخ.... والظهور للعيون ومنه {بروج مشيدة} [النساء: 78] وأصل ذلك بروج السماء والأسوار، والذي أبيح وضعه لهذه الصنيفة الجلباب الذي فوق الخمار والرداء، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما، ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزمه الشباب من الستر أفضل لهن وخير، وقرأ ابن مسعود {وأن يعففن} بغير سين، ثم ذكر تعالى {سيمع} لما يقول كل قائل وقائلة، {عليم} بمقصد كل أحد في قوله، وفي هاتين الصفتين توعد، وتحذير والله الموفق للصواب برحمته.


اختلف الناس في المعنى الذي رفع الله فيه الحرج عن الأصناف الثلاثة، فظاهر الآية وأمر الشريعة أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر وتقتضي نيتهم الإتيان بالأكمل، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا. فأما ما قال الناس في هذا الحرج هنا فقال ابن زيد هو الحرج في الغزو أي لا حرج عليهم في تأخرهم، وقوله: {ولا على أنفسكم} الآية معنى مقطوع من الأول، وقالت فرقة الآية كلها في معنى المطاعم قال وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار فبعضهم كان يفعل ذلك تقذراً لجولان اليد من {الأعمى} ولانبساط الجلسة من {الأعرج} ولرائحة المريض وعلاته وهي أخلاق جاهلية وكبر، فنزلت مؤيدة، وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجاً من غبن أهل الأعذار إذ هم مقصرون في الأكل عن درجة الأصحاء لعدم الرؤية في {الأعمى} وللعجز عن المزاحمة في {الأعرج} ولضعف المريض فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم، وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس لأجل عذرهم فنزلت الآية مبيحة لهن، وقال ابن عباس أيضاً الآية من أولها إلى آخرها إنما نزلت بسبب أن الناس، لما نزلت {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] قالوا لا مال أعز من الطعام وتحرجوا من أن يأكل أحد مع هؤلاء فيغبنهم في الأكل فيقع في أكل المال بالباطل، وكذلك تحرجوا عن أكل الطعام القرابات لذلك فنزلت الآية مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة تلك إنما هي في التعدي والقمار وكل ما يأكله المرء من مال الغير والغير كاره أو بصفة فاسدة ونحوه، وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قوله في الأصناف الثلاثة إنما نزلت بسبب أن الناس كانوا إذا نهضوا إلى الغزو، خلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم، فكان أهل العذر يتجنبون أكل مال الغائب، فنزلت الآية مبيحة لهم أكل الحاجة من طعام الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك، وقيل كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئاً ذهب بهم إلى بيت قرابته فتحرج أهل الأعذار من ذلك، فنزلت الآية وذكر الله تعالى بيوت القرابات وسقط منها بيوت الأبناء، فقال المفسرون ذلك داخل في قوله {من بيوتكم} لأن بيت ابن الرجل بيته، وقرأ طلحة بن مصرف {إمهاتكم} بكسر الهمزة وقوله: {أم ما ملكتم مفاتحه} يعني ما حزتم وصار في قبضتكم، فعظمه ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه وذلك هو تأويل الضحاك ومجاهد، وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء بالمعروف، وقرأ جمهور الناس {مَلَكتم} بفتح الميم واللام، وقرأ سعيد بن جبير {مُلِّكتم} بضم الميم وكسر اللام وشدها، وقرأ جمهور الناس {مفاتحه}، وقرأ سعيد بن جبير {مفاتيحه} بياء بين التاء والحاء الأولى على جمع مَفتح والثانية على جمع مُفتاح، وقرأ قتادة {ملكتم مفاتحه} وقرن تعالى في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة لأن قرب المودة لصيق، قال معمر: قلت لقتادة ألا أشرب من هذا الجب؟ قال أنت لي صديق فما هذا الاستئذان؟ قال ابن عباس في كتاب النقاش الصديق أوكد من القرابة، ألا ترى إلى استغاثة الجهنميين
{فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} [الشعراء: 100] وقوله {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً} رد لمذهب جماعة من العرب كانت لا تأكل أفراداً البتة، قاله الطبري، ومن ذلك قول بعض الشعراء: [الطويل]
إذا صنعت الزاد فالتمسي له *** أكيلاً فإني لست آكله وحدي
وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه فنزلت هذه الآية مبينة سنة الأكل ومذهبة كل ما خلفها من سنة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرماً نحت به نحو كرم الخلق فأفرطت في إلزامه وأن إحضار الأكيل لحسن ولكن بأن لا يحرم الانفراد، وقال بعض أهل العلم هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» وبقوله تعالى: {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا} [النور: 27] وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» الحديث، ثم ختم الله تعالى الآية بتبيينه سنة السلام في البيوت، واختلف المتأولون في أي البيوت أراد، فقال إبراهيم النخعي أراد المساجد، والمعنى سلموا على من فيها من صنفكم فهذا كما قال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} [التوبة: 128] فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء السلام على رسول الله وقيل السلام عليكم يريد الملائكة ثم يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قوله {تحية} مصدر ووصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه والكاف من قوله {كذلك} كاف تشبيه وذلك إشارة إلى هذه السنن أي كهذا الذي وصف يطرد تبيين الآيات {لعلكم} تعقلونها وتعملون بها، وقال بعض الناس في هذه الآية إنها منسوخة بآية الاستئذان الذي أمر به الناس وهي المقدمة في السورة، فإذا كان الإذن محجوراً فالطعام أحرى، وكذلك أيضاً فرضت فرقة نسخاً بينها وبين قوله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188].
قال الفقيه الإمام القاضي: والنسخ لا يتصور في شيء من هذه الآيات بل هي كلها محكمة، أما قوله {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] ففي التعدي والخدع والإغرار واللهو والقمار ونحوه، وأما هذه الآية ففي إباحة هذه الأصناف التي يسرها استباحة طعامها على هذه الصفة، وأما آية الإذن فعلة إيجاب الاستئذان خوف الكشف فإذا استأذن الرجل خوف الكشفة ودخل المنزل بالوجه المباح صح له بعد ذلك أكل الطعام بهذه الإباحة وليس يكون في الآية نسخ فتأمله.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10